كأس العالم ٢٠٢٢ والقوة الناعمة والببلوماسية والبروباغندا

الفريق الألماني بحركة احتجاج لمنعه من وضع شريطة دعم المثلية في مونديال قطر ٢٠٢٢

أزمة القوة الناعمة الألمانية ومونديال قطر 

القوة الناعمة تدوم طويلا وقد تتعدى الأزمات، الدبلوماسية العامة مكلفة لكنها سهلة العطب، البروباغندا استثمار رخيص لكن فشلها كارثة. هذه هي المبادئ الثلاث التي يمكن استنتاجها من بطولة كأس العالم في قطر

القوة الناعمة 

فالقوة الناعمة للدول والمتمثلة بالفرق الوطنية واضحة بشكل جلي، فالفريق الألماني والإسباني والبرازيلي والأرجنتيني يملكون من الجماهير من باقي شعوب العالم ما يزيد عن تعداد سكان دولهم الأم، وهذه المحبة نتاج طبيعي للجهود البشرية للفرق والنظام الرياضي على مدا عقود، مع ملاحظة أن هذه الإنجازات لا فرق فيها بين غني وفقير، بين فريق المانيا المدجج بالقوة الاقتصادية الأوروبية أو الأرجنتين التي تعاني من أزمات مالية شديدة بجانب اختها البرازيل، هنا نحن نتحدث عن (قوة ناعمة) تجعل من هذه الفرق سفراء دولهم ومنتجات دولهم وسياحة دولهم، بل وسياسات دولهم في بعض الأحيان. ولكن، هذه القوة الناعمة رغم تأصلها لدى الجماهير الأجنبية والمنغرزة من زمن الطفولة للكثير منهم، لا يعني أنها غير قابلة للتزعزع، في نفس الوقت لا يعني تعرضها للأزمات أنها سهلة التفتت. فعلى سبيل المثال، عدم وجود كهرباء ثابتة في لبنان من أكثر من عشرين عاما لم تؤثر على مكانة لبنان كوجهة سياحية عربية، ورغم العديد من الحروب المتتالية وضرب البنى التحتية وعقود من الفساد الحكومي، إلا أن لبنان لا تزال وجهة سياحية مرغوبة وإن بدرجات أقل.

في ذات الوقت فإن قدرة القوة الناعمة الوطنية على إمتصاص الأزمات، تختلف بين دولة وأخرى، وقد يكون العامل الأهم مقدار تدخل الحكومات في أصول القوة الناعمة الوطنية. وهنا يجب توضيح أمر مهم، بأن القوة الناعمة لا يمكن أبدا ربطها بالنظم السياسية للأمم والدول بقدر ربطها المباشر بالشعوب، فإن صار وتجلى التوجه الشعبي بقرارات سياسية حكومية تتعارض مع توجهات الشعوب الأجنبية، فلا مجال الا لتزعزع القوة الناعمة الوطنية لتلك الدولة، وهو ما وجدناه في حالة الفريق الألماني العريق، والذي يحاول فرض رؤية مجتمعية غربية ذاتية المانية على جمهور أجنبي كان من أشد معجبيه. وذلك عبر تحويل الفريق الألماني بل وباقي الفرق الأوروبية خلال وجودهم في كأس العالم كرسل لترويج قيم المثلية وكأنها أسمى التطورات المجتمعية الانسانية الحديثة، اضافة إلى زج العنصرية الغربية تجاه دولة قطر العربية الشرقية ذات الطابع الاسلامي والمضيفة للمونديال.

هنا يكمن السؤال، إلى أي حد يمكن اعتبار الفريق الألماني العريق اليوم، قوة ناعمة المانية، مقابل كونه رسالة سياسية واجتماعية المانية؟ إلى أي مدى تم كسر القوة الناعمة الرياضية الآلمانية في الوطن العربي على أقل تقدير، دون الحديث عن آسيا وافريقيا بل وامريكا اللاتينية. 

الدبلوماسية العامة 

إن المعيار الفاصل بين القوة الناعمة والدبلوماسية العامة تتلخص في مقدار تدخل الدولة واستثمارها في اصول القوة الناعمة الوطنية التي تملكها، وهو ما رأيناه بتجلي خلال إفتتاحية المونديال، فدولة قطر التي تملك قوتين ناعمتين عظيمتين، هما قناة الجزيرة والثروة المالية، استثمرت ما يزيد عن ٢٠٠ مليار دولار وتغطية اعلامية عالمية مركزة لخلق قوة ناعمة جديدة لها، متمثلة بصورة قطر الحديثة والمتطورة التي تطمح لتكون مركزا سياحيا وبل ومركز اقتصادي دولي تقارع كل من مدينتي دبي والرياض. 

رغم ذلك، فلم تشفع المليارات لقطر من تعرضها لحملة دولية شعواء بل ومغرضة في أغلبها، واختلاق الأزمات معها، رغم أن أغلب تلك المليارات الكثيرة ذهبت عقودا لشركات غربية عملت في بناء تلك اللحظة. إن هشاشة الدبلوماسية العامة تتأثر طرديا بالتجارب التاريخية مع الدولة وصورتها لدى الأمم الأخرى. في ذات الوقت، أثبت مونديال قطر، بأن الشعوب ذات الحدود المشتركة والتاريخ المشترك واللغة المشتركة، يستطيعون تناسي الأزمات السياسية بين حدودهم بشكل تلقائي، حيث أن الهوية كانت الدافع الأكبر للجمهور العربي، للوقوف مع قطر في هذه الهجمة الاعلامية الغربية رغم كل المشاكل التي خلقتها قطر مع العديد من الدول العربية على مدى العقدين. وهو ما يجدر دراسته بشكل أعمق في المستقبل.

إن استثمار الدول في صورتها القومية ليست رخيصة التكلفة وفي ذات الوقت هي أقل قدرة من القوة الناعمة في امتصاص الصدمات وهذا ما حصل أيضا مع الفريق الألماني، حيث كان للتنسيق الحكومي وتدخلها في موضوع الرياضة وفرض رؤيتها المزدوجة تجاه المعايير الأخلاقية والقانونية لدولة قطر والمحيط العربي والشرقي بشكل عام أن أدى إلى تصدع القوة الناعمة الألمانية، إن استثمار الدول في الدبلوماسية العامة قادر على ضرب القوة الناعمة الوطنية طويلة الأمد، بل وضرب أصول القوة الناعمة نفسها، والتي تعجل في تفتتها مع الزمن، وهو ما يمكن توقعه في حالة الفريق الألماني والفريق الفرنسي أيضا. 

البروباغندا

إن أفضل وصف لخطر البروباغندا هي في قصة راعي الغنم والذئب وكذبه على القرية مرتين، حتى جاء الذئب فنادى الراعي القرية فلم يستمع له أحد، فراحت كل أغنامه. فلا أبسط ولا أرخص من خلق بروباغندا تجاه شخص أو شعب أو دولة أو أمة بحالها، وهو ما شهده العالم العربي على مدى عقود من التشويه الإعلامي الغربي تجاه الهوية والتاريخ الشرقي وهو ما تجلى أكثر في مونديال قطر، عبر الأخبار والتعليقات العنصرية، في محاولة لضرب مونديال قطر وصورة الشرق لدى الأمم الأخرى، وفي خضم الحرب الغربية مع روسيا التي أعلنت شرقيتها وفي خضم رفض أغلب دول العالم الوقوف مع الغرب ضد روسيا، وفي خضم رفض العديد من الدول العربية الوقوف مع الغرب ضد روسيا، هنا، لا يمكن أبد النظر إلى هذه التقارير التي تأتي من حد وصوب، الطاعنة بكل ما تم انشاءه وما تم رصده وانتاجه وابتكاره ودفعه واستثماره لهذا المونديال إلا نداء أوروبي وتخويف من الذئب الخيالي. هنا، علينا تذكر بأن التاريخ الإعلامي الغربي، لم يتوانا لحضة عن التحول إلى بروباغندا مطلقة، من محطة ال بي.بي.سي. البريطاني إلى اي.أف.بي الفرنسية وصوت أمريكا وغيرها من المحطات الغربية. اليوم يمكن القول بالن القوة الناعمة الإعلامية الغربية تحولت الى دبلوماسية اعلامية ومن ثم انحدرت بشكل سريع إلى بروباغندا، فمن ميزات الدبلوماسية العامة أنه من السهل تحولها إلى بروباغندا. اليوم، وبعد الألفية فإن العالم أصبح أكثر نضوجا وامتلاكا للمعرفة والحقيقة من ذي قبل تجاه ما ينشره ما يمكن ان نسميه الإعلام الغربي أو بالأحرى بروباغندا غربية، التي أضحت واضحة للعالم بأنها تكيل بمكيالين ومزدوجة المعايير. إن تحول الإعلام الغربي إلى بروباغندا وفشله في التأثير على الشعوب كاف ليكون الخطر الأكبر على القوة الناعمة الغربية.

الملخص:

إن متابعة كأس العالم هذا العام هو لا شكل مرحلة فاصلة للعديد من المتابعين الرياضيين والسياسيين والإجتماعيين لما يحدث على مستوى العالم من تغيرات اجتماعية وفكرية للشعوب، وهنا قمت ومن وجهة نظر اكاديمية في تحليل كأس العالم وتمييز ثلاثة مفاهيم متشابهة ومتقاطعة ولكن مهمة في محاولة فهم أين والى أين ستنحوا التوجهات المجتمعية بل والسياسية للعالم بعد هذا الكأس.

رمزي الطويل
باحث / مؤلف كتاب “الببلوماسية”: مقدمة في الدبلوماسية العامة ودورها في العلاقات الدولية المعاصرة

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*


This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.